والدنا الحبيب أيضاً - كما تفعل الحكومة مع ضرائبها وجماركها وشرطة مرورها - يلزمنا بدفع (ربط مقدر)، لسيادته شخصياً..يستلمه شهرياً ليصرفه كما يشاء خارج بنود ميزانية المنزل التي يساهم فيها تارة ويتجاوزها تارة أخرى حسب المزاج، وليس لنا حق طرح أي سؤال من شاكلة : ( أبوي انت القروش دي بتوديها وين؟)..وإذ سألته سؤالاً كذاك ولو من باب المداعبة، اتلقى رداً حاسماً من نوع : ( انت مالك؟، أنا موش ربيتك وعلمتك؟، امسك خشمك وادينى مصروفي)..تأخر شقيقي عن دفع (ربطه المقدر)، شهراً وآخر، وإتصل به الحبيب في الشهر الثالث سائلا : ( يا ابني انت ليك شهرين ما رسلت مصروفي، الحاصل شنو؟)، فرد الشقيق مطمئناً : ( لا ماف مشكلة، إن شاء الله برسلو ليك آخر الشهر ده)، فأغلق الخط بعد أن زجره : ( آخر الشهر بتاع شنو؟، طيب الشهرين الفاتو ديل ماكانوا عندهم آخر ؟)..!!
** وهكذا تقريباً لسان حال الناس والبلد أمام حكومة تعدهما - بعد ربع قرن من الزمان - بترشيد الصرف وتقليص المناصب ومكافحة الفساد ومجابهة التجنيب إعتباراً من منتصف ميزانية هذا العام..إذ لسان الحال يسأل بمنتهى الإستياء: ( ترشيد صرف بتاع شنو؟، ومكافحة فساد بتاع الساعة كم؟، طيب السنوات الفاتت دي كلها ماكانت عندها ميزانيات؟)..والسؤال ليس بمثابة بكاء على لبن مسكوب، فاللبن لايزال ينساب على الثرى تحت سمع وبصر الناس.. والمؤلم أن الحكومة لاتمل من تكرار أزمة أخرى قبل أن تكتوي الناس والبلد بأزمة..فلنقرأ - على سبيل المثال طبعاً - ما يلي : الحكومة بصدد تشكيل لجنة عليا برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية للحد من تجنيب الوزارات والهيئات للمال العام..هذا الخبر يستفز عقول الناس (بشكل مبالغ فيهو)..إن كان النائب الأول عجز - بكل سلطاته الدستورية - عن محاربة الفساد والتجنيب طوال ربع القرن، فهل ينجح في تلك المكافحة بمنصب (رئيس لجنة) ..؟؟
** فالتجنيب نوع من الفساد، وهو إستلام المال بغير أورنيك الدولة، ثم التصرف فيه خارج أطر المراجعة العامة..وليس مهماً أوجه صرف المال المجنب، مشروعة كانت تلك الأوجه أو غير مشروعة، فالمهم جدا هو ألا يتم التصرف في ذاك المال إلا حسب الخارطة المحسابية لوزارة المالية، وهذا لا يحدث في السودان..بل لأية مؤسسة حكومية حق فرض ما تشاء من الأتاوات على الناس، وكذلك لها حق التصرف في تلك الأتاوات كما يشاء مدير المؤسسة..ولذلك تتفاجأ وزارة المالية بالإستلام ويتفاجأ المراجع العام بالتصرف..كل هذا أمر مخالف للقانون ( من زمن حفرو البحر)، ليس في السودان فحسب، بل في الكرة الأرضية كلها..وهناك قوانين ولوائح وأحكام تمنع هذه المخالفة وتعاقب مخالفيها..ولكن، نحن في السودان لا نهوى أوطانا، ولذلك نرمي بالقوانين والأحكام التي تكافح التنجيب - وغيره - بعرض الحائط.. وعوضاً عن تلك القوانين والأحكام الواضحة، شكلت الحكومة (لجنة عليا لمكافحة التجنيب)، وكأن مالطا بحاجة الى المزيد من (اللجان)..!!
** ثم تأمل ما يلي، مصطحباً تساؤل (الشهرين الفاتو ديل ماكانوا عندهم أخر؟)..فالخبر يفيد بأن الحكومة قد تتخلص من (380 منصب)، على المستويين المركزي والولائي..وهذا يعني بأن (380 مسؤولاً ) كانوا محض فائض عمالة طوال السنوات الفائتة،أي كانوا (عالة على الناس والبلد)..ولو لم يكونوا كذلك، لما تم فضهم عن مناصبهم - في ساعة ضحى - كأية تظاهرة غير مشروعة..ومع ذلك، أي وكأن مالطا بحاجة الى المزيد من الخراب، يأتي خبر هذا التخلص مرافقاً خبراً يفيد بأن الحكومة شكلت لجنة عليا برئاسة مصطفى عثمان اسماعيل لتطوير منطقة جنوب طوكر..منطقة جنوب طوكر هذه محلية ذات رئيس وأجهزة محلية، وكذلك تتبع منطقة جنوب طوكر لولاية البحر الأحمر التي بها وال وأجهزة ولائية، ومع ذلك تحرص الحكومة على تطوير منطقة جنوب طوكر بواسطة ( لجنة عليا)..وربما هذا - على سبيل المثال طبعا - ما يسمى مجازاً ب(تقليص الحكومة)..عقول الناس لم تعد قابلة للخداع، وكذلك المواطن لم يعد أيوباً بحيث يحتمل المزيد